تمر تونس اليوم بمرحلة دقيقة تهدّد ثورتها وتجربتها الديمقراطية إذ يسود شعور بتبخر الآمال التي جسدتها شعارات الثورة وخشية من احتمالات العودة الى الوراء فضلا عن أوضاع اقتصادية ومالية واجتماعية كارثية غير مسبوقة كلّ ذلك في ظلّ أوضاع إقليمية ودولية ضاغطة أمنيا واقتصاديا. وقد كانت التحركات الشبابية الأخيرة، تزامنا مع الذكرى العاشرة للثورة، مؤشرا إضافيا للقطيعة الحاصلة بين النخب الحاكمة والمجتمع، وخاصة شبابه، وفئاته الهشة، والمنهكة.
لقد وقفنا بعد العشرية الأولى للثورة على حيوية الحركة الاجتماعية والمواطنية حيث تواصلت المقاومة المدنية والسلمية على واجهتين: الأولى، شملت الحركات الاجتماعية والاحتجاجية للفئات الشعبية مثل العاطلين والعاطلات عن العمل، وضحايا التشغيل الهش، وصغار الفلاحين والفلاحات، والبحارة، وصغار المنتجين والمنتجات، فتميّزت بـتنوعها، وانتشارها، وتجدّد وسائلها، وطرحها لـمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ومقاومتها للرّيع والفساد وتحدّيها للوصم والاحتقار .
ترافقا مع ذلك مثلت الحركات المواطنية المدنية والنقابية والنسوية والشبابية المرتبطة بالدفاع عن الحقوق السياسية، والحريات العامة والفردية، والمساواة والحقوق الثقافية وفرض الاعتراف بالأقليات، الوجه الآخر لصمود المجتمع وتوقه إلى الحرية والكرامة، ورفضه لعودة سياسة العنف والإفلات من العقاب، رافعة بذلك سقف المطلب الديمقراطي ومفهومي الحرية والعدالة في جميع أبعادهما.
وإذ عمل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منذ تأسيسه على دعم الحركات الاحتجاجية والاجتماعية ميدانيا وفكريا سواء تعلق الأمر بالتحركات من أجل الحق في التشغيل أو دفاعا عن حقوق عمال وعاملات الحضائر وكل ضحايا التشغيل الهش أو بالحق في البيئة السليمة أو في الخدمات الاجتماعية أو بالوقوف الى جانب عائلات ضحايا الهجرة والمفقودين وفي مناصرة أصحاب وصاحبات الحق والمهمّشين والمهمشات من أجل حماية واحترام حقوق الإنسان والمساواة الكاملة بين الجنسين والدفاع عن دولة الحق والقانون. فإنه لمس لديها رغبة و إرادة لتطوير أدائها و تطلعا لفتح أفقا مشتركا لنضالها.
وبناء على حصيلة العشرية المنقضية، وبعد عام من الأزمة الصحية بكلّ آثارها الاجتماعية والنفسية وأمام تلاحق المؤشرات المهدّدة لسيادتنا الوطنية ووقوفا عند رسائل الانتفاضة الأخيرة لشباب الأحياء وما تعرضت له من قمع غير مسبوق منذ2011 أشّر لانتكاسة تهدد الحريات والمكاسب الديمقراطية، فإن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يدرك اليوم ضرورة المرور إلى نقلة نوعية في أداء فعاليات المجتمع المدني والحركة الاجتماعية من أجل وضع حدّ لتشتّتها، وتنافرها أحيانا، وجعلها تستجيب لتحديات المرحلة وتهيئ لفتح أفق للأمل في المستقبل القريب. ولعلّ التحدّي الأكبر الذي نريده هو بناء ما أمكن من الجسور والقواسم المشتركة بين الحركات الاجتماعية والحركات الشبابية الناشئة وتلك العاملة في مجال الحقوق الفردية والجماعية والمساواة .
وإدراكا منا أن الأسباب الحقيقية التي أدت الى اندلاع الثورة مازالت قائمة وأن إرادة التغيير الاجتماعي وقواه الفعلية اليوم كامنة في عمق المجتمع وما فتئت تتحرك وتعلن عن نفسها بأشكالهاالجديدة ووسائلها المبتكرة،بل إن الموجة الثانية من انتفاضات المنطقة العربية و خارجها يؤكّد المنعرج التاريخي الذي تعيشه العولمة الرأسمالية المأزومة كلّ ذلك يضاعف حاجتنا ومسؤوليتنا، في ظل هذا السياق المتحوّل، في الدّفع نحو بناء أرضية مشتركة للتغيير الاجتماعي عبر بلورة بدائل اقتصادية و تنموية عادلة وجعل القوى الاجتماعية والمدنية والسياسية قادرة على حملها والصراع من أجلها ضد الخيارات التي تتمسك بها الفئات المهيمنة اليوم حفاظا على مصالحها.
لأجل ذلك يتقدم المنتدى بمبادرة من أجل عقد مؤتمر وطني للحركات الاجتماعية والمواطنية في الخريف القادم يجمع كل الحركات الاجتماعية والمدنية والجمعيات والشخصيات الحاملة لنفس القيم من أجل حوار مفتوح وهادف يفتح على سبل إنقاذ مسار الثورة والتصدي للتطرف والشعبويّة ويحمي الديمقراطية ويجذرها عبر رسم آفاق نضاليّة وسياسيّة وعمليّة للحركات الاجتماعيّة والمدنيّة تجسّم تقاطعها، وتضامنها، ودفاعا عن مشروعها المشترك في التغيير الديمقراطي والاجتماعي من أجل بناء ميزان قوى في اتجاه الصراع الذي تخوضه منذ عقود لصالح الفئات الشعبيّة والاجتماعيّة المتضررة من الخيارات القديمة الفاشلة التي تتمسك بها الفئات المتنفذّة والتي تتمعّش منها وتسعى جاهدة للإبقاء عليها خدمة لمصالحها.
وضمانا لإعداد جيد لهذا المؤتمر، وانطلاقة قريبة لأعماله التحضيرية بشراكة فعلية في وضع تصورات مبتكرة وبناء آليات تعبئة ناجعة تجعل منه فضاء ديمقراطيا وتشاركيا ومحطّ آمال الديمقراطيين والقوى الشبابية والاجتماعية، يدعو المنتدى كل الحركات الاجتماعية، والمدنية، والمنظمات، والجمعيات، والشخصيات المؤمنة بمبادئ الثورة، ودولة القانون، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، إلى التفاعل مع هذه المبادرة التي لا تزال مفتوحة على كلّ المقترحات، والانخراط الفعلي في هذا المشروع، والإمضاء على هذا النداء، والشروع في الاتصالات والنّقاشات لضبط مقوّمات النّجاح لهذه المحطة التي نريدها مفصلية.